عبدالهادي خلف
فيما يلي محاولة للربط بين خبرين نشرتهما الصحف في الأسبوع الماضي. نُشر الأولُ منهما في الصفحات الأولى لأنه يتعلق بالطلب الذي قدمه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني عمر البشير تمهيداً لتقديمه للمحاكمة بتهم ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية في دارفور. أما الخبر الثاني فنُشر في زاوية صفحة داخلية ويتعلق بحكمٍ أصدرته إحدى المحاكم الصغرى في البحرين.
لا أملك التأهيل اللازم لإبداء رأي حول الجوانب القانونية المتعلقة بطلب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية أوكامبو، إلا أنني مثل كثيرين من المهتمين بالدفاع عن حقوق الإنسان أعتبر القرار تطوراً مهماً و إيجابياً. فرغم أن أغلب المؤشرات تؤكد أن الطلب الذي قدمه أوكامبو سيراوح مكانه لفترة طويلة قادمة. بل و قد لا يتمكن المدعي العام من إقناع قضاة المحكمة بإصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني. إلا أن أوكامبو كسر عرفاً دولياً يحظر محاكمة رئيس دولة لا يزال يمارس مهماته. وهو عرفٌ ظالم أسهم في إبقاء المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين عن جرائم الحرب في فلسطين وجنوب لبنان والعراق.
إلا أن مجرد تقديم الطلب هو بشارة خير على دربٍ طويل غايته إرساء عرفٍ بديل ملخصه ألا يكون شخصٌ أو دولة فوق القانون. فما يأمل به كثيرون من المدافعين عن حقوق الإنسان في العالم هو ألا يتمكن احدٌ من الإفلات من العقاب. ففي القدرة على الإفلات من العقاب بهذه الحجة أو تلك تكمن نقطة الضعف المركزية في مختلف الآليات التي يتضمنها القانون الدولي الإنساني وغيره من القوانين والاتفاقيات في منظومة القانون الدولي.
أما الخبر الثاني فيتعلق برجلٍ أميركي قضت المحكمة الصغرى الجنائية الخامسة بحبسه لمدة شهر وتغريمه خمسين ديناراً بعد إدانته بتهمتيْن أولاهما الاعتداء الجسدي على شرطييْن والثانية هي قيامه بإزعاج راحة الغير وهو في حالة السكر البيِّن في مكان عام[1].
وفي التفاصيل المنشورة نقرأ أن الرجل كان على متن طائرة متجهة إلى الكويت للالتحاق بعمله فيها. ونتيجةً لسكره الشديد أحدث ضجيجاً وأزعج الركاب الآخرين مما اضطر طاقم الطائرة إلى إبلاغ الشرطة. فجاء شرطيان لإنزاله من الطائرة إلا أن الأميركي قاومهما وحاول التهجم عليهما بل و''قام بركل سيارة الشرطة''. ومن تفاصيل الخبر نعرف أيضاً أنه بعد أن تمكن الشرطيان من التغلب على المذكور ''تمت مخاطبة البحرية الأميركية للتأكد من أن المتهم هو أحد أفرادها، فتبيّن أنه مدني ويعمل في دولة الكويت، وليس له علاقة بهم''.
أرجو من قارئة هذه الصفحة وقارئها أن يعيد قراءة السطر الأخير أعلاه. ماذا تعني جملة ''تمت مخاطبة البحرية الأميركية''؟ أنها تعني ببساطة أنه لو كان لذلك السكران الأميركي عسكرياً أو مدنياً ذي علاقة بالقاعدة البحرية الأميركية لما تمكنت الشرطة منه ولما وصلت قضيته لأيٍ من محاكم البحرين. ولعل هناك قارئ و قارئة يتذكران بعض الحوادث الدامية التي تحدث في البحرين ولا نسمع عنها إلا المعلومات المقتضبة التي تصل إلى الصحف البحرينية. فنعرف بين الحين والآخر نقلاً عن ''مصادر بالقاعدة الأميركية'' أخباراً موجزة عن حوادث إطلاق نار في الثكنات العسكرية الأميركية في الجفير أو خارجها. ولا تجد صحفنا مناصاً من الوقوف عند هذا الحد فتقبل تأكيد تلك المصادر نفسها أن الأجهزة الأمنية التابعة للجيش الأميركي تتولى التحقيق وأنها ستقوم إبلاغ السلطات الأمنية البحرينية بمجريات التحقيق أولا بأول. ولعل هناك من يتذكر وتتذكر أن المصادر الأميركية لا تتوانى المرة بعد الأخرى عن التصريح أن تلك الحوادث الدموية محدودة و أنها تعود إلى اضطراب حالة الجناة النفسية[2].
ما نعرفه أن جميع من لهم علاقة بالقاعدة الأميركية في الجفير من أكبر أدميرال إلى أصغر الزبالين فيها لهم حصانة من قوانين البلاد وأنظمتها. فليس للأجهزة المعنية البحرينية من أمن وشرطة ونيابة وقضاء أية سلطة على أيٍ من الرجال والنساء الذين ينتمون بشكل من الأشكال للقوات العسكرية الأميركية. وهي حصانة تشمل منذ العام 2003 المدنيين ''العاملين في خدمة الدولة الأميركية''. فجميع هؤلاء يتمتعون بحصانة لا يتمتع بمثلها في بلادنا أعتى الوزراء وألْسنُ النواب و''أتخن'' العمائم. ومعلومٌ أن هذه هي الحصانة نفسها التي تطالب سلطات الاحتلال الأميركي بتضمينها الاتفاقية الأمنية التي ستوقعها مع حكومة المالكي في العراق.
أسارع للقول أن لا علاقة لهذه الحصانة بتراثنا العربي الأصيل بما فيه المروءة وإكرام الضيف. فلو كان الأمر كذلك لانعكس شيء منه على فقراء الوافدين إلى بلادنا بل لانعكس على الفقراء من مواطنينا. أقولُ، لا علاقة للحصانة الممنوحة لجميع من لهم علاقة بالقاعدة الأميركية بخصالنا العربية الأصيلة. بل هي حصانة مربوطة بالشروط والالتزامات التي تفرضها علينا اتفاقية إقامة القاعدة في الجفير والمياه الإقليمية البحرينية. فليس للأجهزة البحرينية من أمن وشرطة ونيابة وقضاء أية سلطة على رجل أو امرأة ينتميان بشكل من الأشكال للقوات العسكرية الأميركية. ومعلومٌ أن ضمانات هذه الحصانة قد ازدادت في السنوات الأخيرة إثر نجاح الإدارة الأميركية في محاولاتها للالتفاف على سلطات المحكمة الجنائية الدولية.
يعرف المتابعون أن الولايات المتحدة الأميركية حاولت طويلاً أن تعوق إنشاء المحكمة الجنائية الدولية. وبعد أن فشلت جهودها الدؤوبة في هذا الصدد بدأت في العشر سنوات الماضية سلسلة من الإجراءات لتقويض تلك المحكمة و الالتفاف على سلطاتها[3]. ومن بين هذه الإجراءات إرغامها عدداً من الدول بالابتزاز أو التهديد على توقيع اتفاقيات ثنائية تضمن استثناء العاملين في خدمة الدولة الأميركية سواءً أكانوا عسكريين أم مدنيين من سلطة المحكمة الجنائية الدولية وإجراءاتها. ومعلومٌ أن البحرين وقعت اتفاقية الاستثناء هذه في 6 فبراير/شباط من العام 2003 التي ترفع مستويات الحصانة التي يتمتع بها الأميركيون الرسميون على اختلاف مستوياتهم في بلادنا.
خلاصة القول إن الخبرين مرتبطان على النحو التالي. لوْ كان السكران الأميركي على متن الطائرة المتجهة إلى الكويت عنصراً في البحرية الأميركية لما استطاعت المحكمة البحرينية أن تقضي بحبسه يوماً واحداً. ولوْ لم يكن عمر البشير سودانياً وكان عنصراً في البحرية الأميركية لما هزّ شعرة في جسده الطلبُ الذي قدمه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية باعتقاله حتى ولو كانت يداه شخصياً ملطختين بدماء الضحايا في العراق وغير العراق.