باسمة القصاب
كأني كنت في جناحها. كأننا كنا وحدنا، الفراشة وأنا. لم تكن المرة الأولى التي أزور فيها حديقة الفراشات بماليزيا. فقد سبق لي ذلك العام .1994 لكن الآن صارت تربطني بالفراشة علاقة خاصة. صار ذهابي رفرفة أخرى. أؤمن أن الفراشة خلقت ليتعلم منها الإنسان، كيف يهزم شرنقته بسلاح من جناح حركة.
إذا كان للحركة أسماء مختلفة بحسب محالها، فهي ''في اللسان منطق، وفي النفس بحث، وفي القلب فكر، وفي الانسان استحالة، وفي الروح تشوف، وفي العقل إضاءة واستضاءة''، كما ترى حركة أبو حيان التوحيدي، فإن حركة الجناح هي الأثر. يحرك هذا الأثر منطق الإنسان وبحثه وفكره واستحالته وتشوفه وإضاءته واستضاءته. يحرك حتى اسمه.
بعد كتاب ''كالتي هربت بعينيها'' أصبحت الفراشة اسما مفهومياً يلازمني، هذا الاسم اختاره الكثير من القراء والأصدقاء بديلاً عن اسمي. أن تستطيع تحريك اسمك فتلك رفرفة فراشة. وهي رفرفة شقية حتى على مستوى اللغة. فقواعد النحاة، تضع الأسماء في خانة (الجامد) الذي لا يشتق منه، ولا يتصرف فيه، أي أن الاسم في خانتهم لا يتحرك، لكن الفراشة ليست اسماً إلا على مستوى اللفظ، أما في المفهوم، فالفراشة فعل مشوب بالحركة والحدث والأثر.
لست أخفي شغفي الشديد بهذا الاسم البديل. كتبت لي إحدى العزيزات في مدونتي ''أثر الفراشة'' تعليقاً: ''الفراشة هيّ التي تحرق أجنحتها من أجل النور، غريبٌ جداً اختيارك لأضعف المخلوقات أثراً لكِ!''. نعم. بهذه الغرابة أختارها، بضعفها واحتراقها، لكن الأكثر غرابة عندي، والأكثر شغفاً، هو أثرها. كل شيء في الفراشة يحيلني إلى أثرها. بل كل أثر صار يحيلني على رفرفة جناح ذلك المخلوق الأضعف. وكأن الفراشة صارت رفيقتي في محاولة فهمي للكثير من المآلات (الزلزالية والأعصارية)، غير الطبيعية، من حولنا.
في حديقة الفراشات، يتوجب عليك أن ترفع، لا رأسك، بل بصرك عالياً. البصر يشخص بك نحو ما في الجناح من قدرة الطيران. أليس يحلِّق البصر ويجنح ويميل وينكسر وينطبق ويرفرف ويشرد ويزوغ وينفلت وينقلب تماماً كما يفعل الجناح. بصرك جناحك. تلفتك البعيد الذي لا يكل من الطيران. لا يكف بصرك يقصد بك مناطق غير معروفة، وأخرى غير مأهولة، وأخرى محظورة وأخرى مغيبة وأخرى مسكوت عنها. لا يكف يوقعك في دهشة الفراغات الممتلئة بالحركة والحياة والاختلاف والألوان. البصر مغامرة غير مسؤولة ربما، لكنها ربما غير مسبوقة أيضاً.
في حديقة الفراشات راح بصري يحاول قراءة شيء من درس الجناح. كانت كاميرتي الرقمية على أهبَّة عدستها. ها هي تلاحق حركة إحدى الفراشات الملونة بشغف لذيذ. لكن الفراشة الغارقة في تحليقها، الغارقة في تلفتاتها وميلاناتها وانقلاباتها وشروداتها ورفرفتها، كانت تنفلت من تأهبي في كل مرة بدلال شقي. تومئ لي بخيلاء جناحيها. توشوشني: لا تمسك العدسة الفراشة ما دامت في جناح. الفراشة تكره في الصورة ثباتها. الصورة تحصرك حيث لحظتك وحركتك وملامحك وزمنك. ليس ما قبلها وليس ما بعدها، بل ليس حتى أبعادها، ولا باقي جهاتها.
الصورة كما يقول الفيلسوف الأمازيغي أبوليوس (125 م- 180م) ''معدومة الحركة[1]''، والفراشة كائن توجده الحركة. تتحول اللقطة إلى سكون يشي ببقاء أبدي في اللحظة، والفراشة حركة تتكاثر كل لحظة. الحركة لا ترصدها غير مرآة قادرة. مرآة ''مطواعة لكل إيماءة''. وحدها المرآة تتيح للإنسان ''أن يتعرف إلى ملامحه وأن يراها دون أن ترسم في صورة واحدة ثابتة[2]''. وحدها حركة المرآة، تكشف إيماءات الإنسان، وملامحه المتغيرة مع اللحظة والزمن.
في كتاب (دفاع صبراطة)، كان أبوليوس يرد على اتهام أسرة الأرملة (بودنتلا) له، بممارسة السحر للفوز بقلبها، والزواج منها طمعاً في ثروتها. وكان امتلاك المرآة واستخدامها، واحدة من أبرز التهم التي وجهت له للبرهنة على فساد أخلاقه واهتمامه بمسائل الحب والغرام: فيلسوف يمتلك مرآة، فيلسوف يستخدم مرآة. لم يأنف أبوليوس رغم سخافة التهم الموجهة إليه، من فلسفة التهم، وإسباغ الحركة على تفاصيلها. لقد جعل أبوليوس من (دفاع صبراطة)، دفاعاً عن الفلسفة، دفاعاً عن حق المرء في أن يتعرف إلى ملامحه بكل إيماءاتها وحركاتها. ''ما من شيء يستحق نظر الإنسان إليه أكثر من ملامحه هو[3]''. ولا يفعل ذلك مثل مرآة.
في حديقة الفراشات كانت فراشتي الفيلسوفة، تتشوّف إلى مرآة، لا إلى صورة. مرآة تعرِّفها ملامحها، دون أن ترسمها في صورة ثابتة، دون أن تجعلها في قالب جامد. وكانت عدستي تبحث عن صورة ناقصة الحركة. تذكرت مرآة أبوليوس، فأدركت قصد الفراشة. عندها، أطلقت لبصري جناحه، وأرخيت عدسة كاميرتي. تركت بصري يصير مرآة الفراشة. مطواعاً لكل إيماءاتها. صرت طي جناحها. صرت أرفرف معها بشغف لذيذ. صارت تهبني لذة الجنوح، وصرت أهبها لذة الكلام. لم ألحظ نفسي وأنا اختلط بجناحها، وهي تختلط بلغتي، فما عدنا نعرف أينا هي وأينا أنا.
على الأرض، كانت ثمة أجنحة مصفَّدة ملقاة. أجنحة متكسرة. لا جسد يشدّها. ترى أي مآل أعدم جناح الفراشة فأحالها صورة معدومة الحركة؟ أتراها كانت فراشة جانحة؟ لم لا؟ فالجناح في اللغة هو الجنوح! أتراها ذهبت في تلفتها إلى مسار ضوء غير مسموح به، فكانت عقوبتها إعدام من الجناحين؟ ما الفراشة إن أُعدم الجناح؟. ما أبشع الإعدام. أخرجت كامرتي. التقطت صورة جامدة. ما أسهل أن تصطاد كاميرتك لقطة ميتة.
رفعت بصري من جديد أتأمل الشبك الرفيع. أتراه (الجناح) لم يبلغ ارتفاع ذلك الشبك يوماً؟ أتراها (الفراشة) لم تحاول مغادرة شبكها العازل؟ ما الجناح إذن إن لم يكن شخوصاً أرفع من حد الشبكة؟ رحت أتأمل أكثر. كانت ثمة أجزاء عالقة. تأملت أكثر. لم أميز غير كسَر أجنحة محجوزة في فتحات الشبك الصغيرة. أجنحة عالقة حتى الموت. هل ثمة فراشة نجحت في اجتياز شبكتها الأرفع بسلام؟ الثقوب الصغيرة لا توحي بذلك. ها هي فراشة تراوح قريباً من الشبكة. أخرى أكثر جرأة، تحط فوق الشبكة، تنظر إلى الخارج، ثم سرعان ما تعود، بعد أن تخذلها جرأتها.
أما تلك البقايا المعلّقة، فهي مصائر لم يجرؤ أحد على نزعها. ربما لتكون عبرة لباقي الفراشات. إنه مصير الجناح حين يجنح للفرار. والفراشة على مصير جنوحها بصيرة..